فصل: باب العفو عن القصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.باب العفو عن القصاص:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ، وَالضَّرْبَةِ، وَالشَّجَّةِ، وَالْجِرَاحَةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ السِّرَايَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَفَوْت عَنْ الْقَطْعِ، أَوْ عَنْ الشَّجَّةِ، فَإِنْ اقْتَصَرَ جَازَ الْعَفْوُ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ، فَالْعَفْوُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ النُّقْصَانُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْعَفْوُ صَحِيحٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَأَمَّا إذَا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْجِنَايَةِ، أَوْ الشَّجَّةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، أَوْ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ صَحَّ الْعَفْوُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُمَا يَقُولَانِ عَفَا عَنْ حَقِّهِ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَدَّ السِّرَايَةِ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي الطَّرَفِ فَقَبْلَ السِّرَايَةِ أَوْلَى.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَفْوَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ فِيهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا، ثُمَّ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسْقِطُ ضَمَانَ السِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ فِي الِانْتِهَاءِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الشَّجَّةُ وَلَوْلَاهُ لَمَا صَحَّ الْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ، أَوْ عَنْ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا، فَإِذَا عُفِيَ عَنْ الشَّجَّةِ صَارَ أَصْلُ السَّبَبِ هَدَرًا، فَالسِّرَايَةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكُونُ هَدَرًا أَيْضًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَفَوْتُك عَنْ الشَّجَّةِ أَيْ عَنْ مُوجَبِ هَذِهِ الشَّجَّةِ وَمُوجَبُهَا الْقِصَاصُ فِي الشَّجَّةِ إذَا اقْتَصَرَ وَفِي النَّفْسِ إذَا سَرَى فَيُصْرَفُ الْعَفْوُ إلَيْهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِلْغَاصِبِ أَبْرَأْتُك عَنْ الْغَصْبِ يَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِالْغَصْبِ، وَهُوَ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهَا وَرَدُّ الْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِهَا.
وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إذَا أَبْرَأَ الْبَائِعَ عَنْ الْعَيْبِ يَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً عَنْ مُوجَبِ الْعَيْبِ، وَهُوَ الرَّدُّ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَالرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْ أَنَّ عَبْدًا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ فَصَالَحَ مَوْلَاهُ عَنْ الْقَطْعِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ قَالَ: الْعِتْقُ نَافِذٌ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ، فَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْقَطْعِ صُلْحًا عَنْ السِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ شَجَّةً مَعَ السِّرَايَةِ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِالشَّجَّةِ، وَالْآخَرُ بِهَا وَبِالسِّرَايَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الشَّجَّةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّجَّةُ حَقَّهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ لَمَا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ عَفَا عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطُ الْحَقِّ فَإِذْ صَادَفَ مَا لَيْسَ بِحَقِّهِ كَانَ بَاطِلًا وَبَيَانُهُ إنْ عَفَا عَنْ الْيَدِ وَحَقِّهِ فِي النَّفْسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ كَانَ قَتْلًا وَمُوجَبُ الْقَتْلِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجِنَايَاتِ مَآلُهَا لَا حَالُهَا (أَلَا تَرَى) أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ وَبِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَسَرَى إلَى نِصْفِ السَّاعِدِ فَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ هَاهُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ فِي الْيَدِ قِصَاصًا.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ: عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ السِّرَايَةِ وَلَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ، عَفَوْتُك عَنْ الْقَتْلِ، ثُمَّ اقْتَصَرَ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ فَسَرَى وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَنَّهُ عَفَا عَنْ مُوجَبِ الْيَدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْقَطْعِ فَمَعْنَاهُ عَنْ قَطْعِ وَاجِبٍ مُقَابِلَ هَذَا الْقَطْعِ لَا عَنْ هَذَا الْقَطْعِ الَّذِي تَحَقَّقَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطْعَ وَاجِبٍ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْقَطْعِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَطْعَ سَبَبُ حَقِّهِ قُلْنَا الْقَطْعُ سَبَبُ حَقِّهِ فِي الْيَدِ لَا سَبَبُ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ، بَلْ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ السَّارِي لَا يَقُولُ أَنَّهُ قَطْعٌ، ثُمَّ قَتْلٌ أَوْ قَطْعٌ يَصِيرُ قَتْلًا بِمَنْزِلَةِ قَنْصٍ يَصِيرُ صَيْدًا، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ، وَإِنَّمَا انْزَهَقَ هَذَا الرُّوحُ عَقِيبَ هَذَا الْفِعْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَتْلٌ؛ وَلِهَذَا صَحَّ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ وَمَا دُونَهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا جِنَايَةَ فِي قَتْلِ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّفْسَ، أَوْ مَا دُونَ النَّفْسِ لَمْ تُسْمَعْ بِخِلَافِ الْقَطْعِ، فَهُوَ اسْمٌ حَائِزٌ لِمَا دُونَ النَّفْسِ حَتَّى لَوْ قَالَ: لَا قَطْعَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّفْسَ صَحَّتْ الدَّعْوَى، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَفَوْتُك عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي النَّفْسِ فَصَحَّ الْعَفْوُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فِي الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّهُ فَيَصِيرُ الْمَأْذُونُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِذْنِ فِي إقَامَةِ الْفِعْلِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَصَرَ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ قَطْعًا، وَأَنَّ حَقَّهُ فِي قَطْعٍ وَاجِبٍ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْقَطْعِ فَأَمَّا إذَا دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْيَدِ، فَالصُّلْحُ هُنَاكَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا سَرَى قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَهُ إلَّا أَنَّ عِتْقَهُ إنَّمَا يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ صُلْحٍ فَاسِدٍ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا فَيَنْفُذُ فِيهِ الْعِتْقُ، ثُمَّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ إنَّمَا دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْيَدِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى قَصَدَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ بِالْجِنَايَةِ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ مَا لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ، وَهُوَ الْعِتْقُ اعْتَبَرْنَا الظَّاهِرَ وَقُلْنَا إذَا سَرَى، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ مَا لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ اعْتَبَرْنَا الْمَقْصُودَ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ فَقُلْنَا الْعِتْقُ نَافِذٌ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ.
يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ نَفَذَ الْعِتْقُ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ، ثُمَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ بِهِ مُخْتَارًا فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: الْعِتْقُ نَافِذٌ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ فَقِيلَ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَقَّ فِي النَّفْسِ إذَا ثَبَتَتْ السِّرَايَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهَا وَاحِدٌ وَبِدُونِ السِّرَايَةِ الْحَقُّ فِي الشَّجَّةِ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ الْمُدَّعِي يَتَبَرَّأُ مِنْ الشَّجَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَلَمْ يَثْبُتْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى بَيْعَ عَيْنٍ مِنْ إنْسَانٍ بِثَمَنٍ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي وَحَلَفَ بِنَفْيِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَبَرَّأُ مِنْ مِلْكِ الْعَيْنِ إذْ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الْيَمِينِ وَلَمْ يَثْبُتْ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمَّا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ: حَقُّهُ فِي الصُّورَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ وَمَا أَضَافَ إلَيْهِ الْعَفْوَ، وَإِنْ تَبَيَّنَ فِي الْأَخِيرَةِ أَنَّهُ غَيْرُهُ.
وَكَذَلِكَ مَا أَضَافَ إلَيْهِ الْعَفْوَ هُوَ السَّبَبُ لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ ظَاهِرًا؛ لِيَصِيرَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رَدِّ الْقَوَدِ، وَقَدْ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْ لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ حَتَّى سَرَى، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ، وَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ مَا ذِكْرُ هَذَا حَقٌّ بِسَبَبِ الْقِيَاسِ وَقِيلَ، بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ هُنَاكَ الصُّلْحُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ، ثُمَّ بَنَى عَلَى هَذَا الْفَصْلِ مَسْأَلَةَ التَّزْوِيجِ عَلَى الْجِرَاحَةِ بِالْجِنَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ.
، وَالْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ جَائِزٌ فِي الْمَرَضِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْعَمْدِ لَيْسَ بِمَالٍ وَبِالْمَرَضِ إنَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ فَفِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ: الْمَرَضُ، وَالصِّحَّةُ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُ الْقَاتِلِ فِيهِ سَوَاءٌ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَعَانَ إنْسَانًا بِيَدَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَاتِلًا لَهُ.
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَفْوُهُ فِي الْقِصَاصِ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمَالِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ عِنْدَهُ مُوجِبٌ لِلْمَالِ وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ، وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ لَا يُبْطِلُ الْقَوَدَ عَنْ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ مَعَ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَزِمَهُمَا بِالْقَتْلِ، ثُمَّ سَقَطَ أَحَدُهُمَا بِالْعَفْوِ وَدَمُ أَحَدِهِمَا مُتَمَيِّزٌ عَنْ دَمِ الْآخَرِ فَسُقُوطُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا لَمْ إذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْفِعْلَانِ اجْتَمَعَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا مُوجِبٌ، وَالْآخَرُ غَيْرُ مُوجِبٍ، وَدَمُ الْمَقْتُولِ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ قَالَ: وَلِكُلِّ وَارِثٍ فِي دَمِ الْعَمْدِ نَصِيبٌ بِمِيرَاثِهِ يَجُوزُ فِيهِ عَفْوُهُ وَصُلْحُهُ أَمَّا الدِّيَةُ إذَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ فَلِكُلِّ وَارِثٍ فِيهَا نَصِيبٌ عِنْدَنَا.
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَرِثُ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ أَنَّهُ أَتَاهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ «أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ مِنْ الدِّيَةِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ»، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَسِّمُ الدِّيَةَ عَلَى مَنْ أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ وَعَنْهُ قَالَ: إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِثُلُثِهِ دَخَلَتْ دِيَتُهُ فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ وَلِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دَيْنَهُ فَيَرِثُ مِنْهُ جَمِيعُ وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي الْقِصَاصِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَثْبُتُ حَقُّهُمَا فِي الْقِصَاصِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا الْعَقْدُ، وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْقِصَاصِ، وَهَذَا لَا، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْقِصَاصِ التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامُ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِهِ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ تَرَكَ مَالًا، أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ»، وَالْقِصَاصُ حَقُّهُ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ كَالدِّيَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ بِالزَّوْجِيَّةِ كَاسْتِحْقَاقِهِ بِالْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ بِالْعَقْدِ.
وَإِذَا كَانَ دَمُ الْعَمْدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَعُفِيَ أَحَدُهُمَا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَاوَرَ فِيهَا ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَرَى هَذَا قَدْ أَحْيَا بَعْضَ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُتْلِفَهُ فَأَمْضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَضَاءَ عَلَى رَأْيِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْعَافِيَ أَسْقَطَ حَقَّهُ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ فَصَحَّ إسْقَاطُهُ وَبِإِسْقَاطِهِ حَقَّ بَعْضِ نَفْسِ الْقَاتِلِ، وَالْآخَرُ يَعْجَزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ اسْتِيفَاءً، ثُمَّ الْقِصَاصُ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا لَا يَتَجَزَّأُ سُقُوطًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآخَرَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ قُلْنَا إنَّمَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ، وَهُوَ مُرَاعَاةُ الْحُرْمَةِ لِبَعْضِ نَفْسِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَيَجِبُ الْمَالُ لِلْآخَرِ وَلَا يَجِبُ لِلْعَافِي شَيْءٌ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي حَقِّهِ كَانَ بِإِسْقَاطِهِ، ثُمَّ لِلْآخَرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْعَمْدُ الْمَحْضُ وَيَكُونُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ فِي سَنَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ لِلْآخَرِ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي سَنَتَيْنِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّهُمَا فِي بَدَلِ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إذَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا وَاَلَّذِي وَجَبَ لِلْآخَرِ جُزْءٌ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ كَذَلِكَ.
وَإِذَا كَانَ دَمُ الْعَمْدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ عُفِيَ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ الْقَاتِلُ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِلشَّاهِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَفْوِ مِنْ الْآخَرِ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ فِي ذَلِكَ فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ لِلشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ نَصِيبِهِ مِنْ الْقَوَدِ لَا لِمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ، بَلْ بِشَهَادَةِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ، وَهُوَ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ مُتَّهَمٌ فَيَكُونُ كَاذِبًا فِي حَقِّهِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَفْوِ مِنْ الشَّاهِدِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّاهِدِ وَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْقَاتِلُ وَكَذَّبَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ.
أَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِمَا قُلْنَا فَإِنَّ الْقَاتِلَ وَالشَّاهِدَ لَا يُصَدِّقَانِ عَلَيْهِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ وَأَمَّا الشَّاهِدُ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ نَصِيبَهُ انْقَلَبَ مَالًا بِعَفْوِ شَرِيكِهِ وَصَدَّقَهُ الْقَاتِلُ بِذَلِكَ وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ الْقَاتِلُ وَصَدَّقَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّاهِدِ قَدْ سَقَطَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ بِالْعَفْوِ فِي حَقِّ مَنْ كَذَّبَهُ، وَهُوَ الْقَاتِلُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَفْوِ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْعَفْوِ الْمُسْقِطِ لِحَقِّهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَ الْقَاتِلُ الشَّاهِدَ، فَقَدْ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يُصَدِّقْ الشَّاهِدَ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْقَاتِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ، فَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهَذَا التَّصْدِيقِ حَوَّلَ ذَلِكَ النِّصْفَ إلَى الشَّاهِدِ وَزَعَمَ أَنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ لِلشَّاهِدِ عَلَى الْقَاتِلِ لَا لَهُ.
وَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَأَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ لِغَيْرِهِ بِهِ لَا يَصِيرُ رَدُّ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ يُخَوَّلُ الْحَقُّ إلَى الثَّانِي بِإِقْرَارِهِ أَوْ كَانَ شَهِدَ مَعَهُ آخَرُ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ مِنْ الْوَلِيَّيْنِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْعَفْوِ مُتَّهَمٌ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِشَهَادَتِهِ أَنْ يُحَوِّلَ نَصِيبَهُ إلَى الْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ الْعَفْوُ عَلَى الشَّرِيكِ وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا، وَالْقَاتِلُ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُهُ، فَإِنْ شَهِدَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَاَلَّذِي شَهِدَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَدْ بَطَلَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِمَنْزِلَةِ عَفْوِهِ وَوَجَبَ لِصَاحِبِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعَفْوِ، وَإِنْ شَهِدَا مَعًا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعَافِي فَيَسْقُطُ حَقُّهُمَا مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ، وَإِنْ صَدَّقَ الْقَاتِلُ أَحَدَهُمَا وَكَذَّبَ الْآخَرَ أُعْطِيَ الَّذِي صَدَّقَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَبَطَلَ حَقُّ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ لَهُ وَكَذَّبَ الْآخَرَ، وَهُوَ قَدْ صَارَ فِي حَقِّهِ كَالْعَافِي، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا أَنَّهُمَا قَدْ عَفَوَا يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَضْمَنَ الدِّيَةَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُ صَارَ يُقِرُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا إذَا صَدَّقَ أَحَدَهُمَا، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ فِي تَصْدِيقِهِ إيَّاهُمَا تَكْذِيبُهُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مَا عَفَا، وَإِنَّمَا عَفَا شَرِيكُهُ، وَهُوَ إذَا زَعَمَ أَنَّهُمَا عَفَوَا، فَقَدْ صَارَ مُكَذِّبًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَدْ يُثْبِتَانِ أَنَّهُ لَوْ كَذَّبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ.
وَلَوْ كَانَ الدَّمُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى الثَّالِثِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّ نَصِيبَهُمَا مِنْ الْقِصَاصِ يَنْقَلِبُ مَالًا بِهَا، وَقَدْ سَقَطَ الْقَوَدُ لِإِقْرَارِهِمَا بِذَلِكَ، فَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أُعْطِيَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدَيْنِ شَيْءٌ لِمَا بَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا كَإِنْشَاءِ الْعَفْوِ مِنْهُمَا، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا أَعْطَاهُمَا الدِّيَةَ أَثْلَاثًا لِإِقْرَارِهِ لِلشَّاهِدَيْنِ بِمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ مِنْ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُكَذِّبْ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّكْذِيبِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الصُّلْحِ بِذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَفْوِ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ شَرِيكٌ رَابِعٌ لَمْ يَشْهَدْ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ فَلَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ لَا بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ، ثُمَّ الْعَفْوُ عَنْ الْقَوَدِ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشَّهَادَةِ فَيَثْبُتُ بِالْأَبْذَالِ مَعَ الْحُجَجِ كَالْمَالِ.
وَإِنْ ادَّعَى الْقَاتِلُ الْعَفْوَ عَلَى الْوَرَثَةِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ حَلَفَ الْوَارِثُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدٌ بِالْقِصَاصِ لَا يَحْلِفُ، بَلْ بِالْقَتْلِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ يُحَلِّفُهُ كَمَا انْتَفَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْعَفْوِ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ بَطَلَ حَقُّهُ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ وَلِشُرَكَائِهِ حِصَّتُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ النَّاكِلُ الْعَفْوَ.
وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِلْقَاتِلِ أَنَّهُ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ، وَأَنَّهُمَا كَفَلَا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ صُلْحٍ، وَالْوَلِيُّ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا إنْ ذَكَرَا أَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ فِي الصُّلْحِ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ كَفَالَةُ الْكَفِيلِ بِعَيْنِهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ فَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ عَلَى عَقْدٍ تَمَّ بِهِمَا، وَهُوَ الصُّلْحُ الَّذِي تَمَّ بِكَفَالَتِهِمَا فَيَكُونُ هَذَا شَهَادَةً عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ، وَإِنْ ذَكَرَا أَنَّهَا بَعْدَ الصُّلْحِ فَشَهَادَتُهُمَا عَلَى الصُّلْحِ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَجْنَبِيَّانِ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا وَيُؤْخَذَانِ بِالْكَفَالَةِ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا يَرْجِعَانِ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي كَفَلَا عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمَا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ بِغَيْرِ الْأَمْرِ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا يَلْزَمُ وَيُؤَدِّي، وَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ شَهَادَتَهُمَا وَجَحَدَ ذَلِكَ الْقَاتِلُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ قَدْ سَقَطَ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ الصُّلْحَ، وَقَدْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْقَاتِلِ وَيَلْزَمُهُمَا مَا أَقَرَّا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْقَاتِلِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ.
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْعَفْوِ وَقَضَى الْقَاضِي، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَالشَّاهِدُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ مِنْ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِيمَا هُوَ مُبْتَذَلٌ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى رَجَعَا، فَالْقِصَاصُ كَمَا هُوَ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَضَاءُ، فَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي هَاهُنَا لَمْ يَسْقُطْ الْقَوَدُ فَانْعَدَمَ الْمَانِعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَاخْتِلَافُ شُهُودِ الْعَفْوِ فِي الْوَقْتِ، وَالْمَكَانِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ هُوَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ تَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ فَيَبْقَى الْقِصَاصُ كَمَا كَانَ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَفَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ عَفَا عَلَى غَيْرِ جَعْلٍ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ إذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالصُّلْحِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ شَهَادَةَ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَهَادَةَ الْآخَرِ، وَهُوَ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِأَلْفٍ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ الْقَاتِلُ وَادَّعَاهُ وَلِيُّ الدَّمِ، فَقَدْ جَازَ الْعَفْوُ بِإِقْرَارِ الْوَلِيِّ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْقَوَدِ، ثُمَّ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ فِي الْأَقَلِّ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ أَلْفٍ مُدَّعٍ بِخَمْسِمِائَةٍ ضَرُورَةً فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِي دَعْوَى الْمَالِ مُطْلَقًا.
وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالصُّلْحِ عَلَى عَبْدٍ وَالْآخَرُ بِالصُّلْحِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِعَقْدٍ آخَرَ، وَالْمُدَّعِي لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَهَادَةَ الْآخَرِ.
وَعَفْوُ الْأَبِ، وَالْوَصِيِّ عَنْ قِصَاصٍ وَاجِبٍ لِلصَّغِيرِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِمَا اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ شَرْعًا لَا إسْقَاطَهُ وَإِسْقَاطُهُ الْقِصَاصَ كَإِسْقَاطِهِ دَيْنًا وَاجِبًا لِلصَّبِيِّ فَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَيَئُولُ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ الْوَاجِبَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الِابْنَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ، وَالْأَبُ بِهَذَا الِاسْتِيفَاءِ يَقْطَعُ عَلَيْهِ خِيَارَهُ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِصَاصِ التَّشَفِّي، وَالِانْتِقَامُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلصَّغِيرِ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ رُبَّمَا يَمِيلُ إلَى الْعَفْوِ فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْأَبُ كَانَ ذَلِكَ اسْتِيفَاءً مَعَ شُبْهَةِ الْعَفْوِ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ وِلَايَةُ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ كَوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَالَ، وَالنَّفْسَ جَمِيعًا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ نَظَرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُ بِمَوْتِ الْقَاتِلِ، أَوْ بِهَرَبِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْقِصَاصَ عَلَى فَوْرِ الْقَتْلِ فَعَلَ مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلصَّبِيِّ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ إذَا بَلَغَ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرَ قَاتِلَ وَلِيِّهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَعَلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ قِصَاصًا حَصَلَ التَّشَفِّي نَظِيرَ مَا لَوْ زَوَّجَهُ الْأَبُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ شَرُّ الْقَتْلِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ فِي الْحَالِ وَشُبْهَةُ عَفْوٍ بِتَوَهُّمِ وُجُودِهِ فِي الْحَالِ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ.
فَأَمَّا شُبْهَةُ عَفْوٍ بِتَوَهُّمِ اعْتِرَاضِهِ فِي الثَّانِي فَلَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَلِيٍّ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فَيَعْفُوَ وَلَا مَعْنًى لِمَا قَالَ: أَنَّ فِيهِ قَطْعَ خِيَارِهِ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ مَالَ وَلَدِهِ وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ إزَالَتِهِ بِالْبَيْعِ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُ قَطْعًا لِخِيَارِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَالِ، وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَيْسَ بِمَالٍ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْوَصِيِّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ؛ لِأَنَّ الطَّرَفَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِي؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ، فَإِنْ صَالَحَ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ جَازَ صُلْحُهُ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْقِصَاصِ الْوَاجِبِ لَهُ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى الدِّيَةِ، وَإِنْ حَطَّ مِنْ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ حَطُّهُ، وَالْيَسِيرُ وَالْفَاحِشُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا وَهُنَا مُقَدَّرٌ، وَهُوَ الدِّيَةُ، فَالنُّقْصَانُ عَنْهُ يَكُونُ إسْقَاطًا فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَصُلْحُ الْوَصِيِّ عَنْ النُّقْصَانِ فِي النَّفْسِ عَلَى الدِّيَةِ يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ الصُّلْحِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الرِّوَايَتَيْنِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَلِيٌّ سِوَى السُّلْطَانِ، فَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِ فِي اللَّقِيطِ.
وَإِنْ كَانَ لِلدَّمِ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّ الْغَائِبَ عَفَا عَنْهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَأَبَى قَتْلَهُ وَأُجِيزَ الْعَفْوُ مِنْ الْغَائِبِ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ خَصْمٌ عَنْ الْغَائِبِ فَانْتَصَبَ هُنَا الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ، وَإِذَا قَضَى بِالْعَفْوِ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ اتَّصَلَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ هُوَ خَصْمٌ وَيَكُونُ لِلْحَاضِرِ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ، وَإِذَا ادَّعَى عَفْوَ الْغَائِبِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَقْدُمَ الْغَائِبُ فَيَحْلِفَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحْلَفَ الْحَاضِرَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ، وَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ مَا لَمْ يَقْدُمْ الْغَائِبُ قَبْلَ دَعْوَى الْعَفْوِ فَبَعْدَ دَعْوَى الْعَفْوِ أَوْلَى، فَإِذَا قَدِمَ فَحَلَفَ اُقْتُصَّ مِنْهُ، فَإِنْ ادَّعَى بَيِّنَةً حَاضِرَةً عَلَى الْعَفْوِ أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ إلَّا بِمُهْلَةٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُحْضِرْ شُهُودَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُ الْعَفْوَ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْهَالِهِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي فِيهِمْ يَجْلِسُ بِنَفْسِهِ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذْ الثَّلَاثَةُ مُدَّةٌ حَسَنَةٌ لِإِيلَاءِ الْأَعْذَارِ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ، فَإِنْ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ وَلَمْ يَأْتِ بِهِمْ وَادَّعَى بَيِّنَةً غَائِبَةً فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِنَا أَنْ يَمْضِيَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ كَمَا فِي الْمَالِ إذَا ادَّعَى بَيِّنَةً غَائِبَةً عَلَى الْإِبْرَاءِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُطْلَقَ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَدْ ظَهَرَ، وَالْمَانِعُ مَوْهُومٌ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ فَلَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ قَالَ: وَلَكِنِّي أَسْتَعْظِمُ وَلَا أُعَجِّلُ فِيهِ بِالْقِصَاصِ حَتَّى أُثْبِتَ فِيهِ وَأَسْتَأْنِي بِهِ وَلَا أُعَجِّلُهُ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ وَالتَّلَافِي، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي مِثْلِهِ، ثُمَّ الْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ فَبِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ حُضُورِ شُهُودِهِ يَتَأَنَّى فِيهِ الْقَاضِي حَتَّى لَا يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا مَعَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمَالِ.
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِعَيْنِهِ بِالْعَفْوِ، أَوْ بِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَاهُ عَفَا، أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ سَقَطَ الْقِصَاصُ سَوَاءً أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ، أَوْ مَرَضِهِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَوَدِ لَيْسَ بِمَالٍ.
وَإِذَا كَانَ الدَّمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ عَمْدًا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ، أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي مَالِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ بِعَفْوِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَمَّا زُفَرُ فَيَقُولُ الْقَوَدُ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا عَلِمَ الْآخَرُ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالُهُ أَوْلَمَ يَشْتَبِهْ فَإِنَّمَا بَقِيَ مُجَرَّدُ الظَّنِّ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَالظَّنُّ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ، ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّهُ حَيًّا كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَمَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ، فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ مَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُسْقِطَ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ الْعَفْوَ كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ ظَاهِرًا، وَالظَّاهِرُ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ نَافِذٍ وَسُقُوطَ الْقَوَدِ عِنْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى خَفِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَدْ يَشْتَبِهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بِالْعَفْوِ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرَ الْمُسْقِطُ عِنْدَهُ وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ الْقَوَدُ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ كَافِرًا، فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ، ثُمَّ يُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ وَجَبَ لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ فَيَكُونُ نِصْفُ الدِّيَةِ قِصَاصًا بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ.
وَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ بِسَيْفٍ، أَوْ عَصَا، أَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ عَثَرَ بِحَجَرٍ وَضَعَهُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ دَمَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ كَالْمُبَاحِ فَإِنَّ الدَّمَ لَا يُمْلَكُ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ إذَا صَارَ قَاتِلًا لَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ، أَوْ بِالسَّبَبِ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِفِعْلٍ يَتَّصِلُ بِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ.
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا، ثُمَّ أَصَابَهُ هَذَا الْأَحَدُ بَعْدَ الْعَفْوِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّيْفِ فَإِنَّهَا فِي مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا وَصَارَ فِي حُكْمِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْمَالِ عَلَيْهِ كَأَنَّ مَا سَبَقَ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا أَخَذَ الدِّيَةَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ خَطَأً رَجَعَ هَذَا الْقَاتِلُ خَطَأً بِنِصْفِ الدِّيَةِ الَّتِي أَخَذَهَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ بِعَفْوِ شَرِيكِهِ انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ وَبَدَلُ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ تَرِكَتِهِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مَا كَانَ وَاجِبًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا مُقَاصَّةَ هَاهُنَا لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ، فَإِنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ عَلَى عَاقِلَةِ وَلِيِّ الدَّمِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ، وَلَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْوَلِيِّ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَلِيِّ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً بَطَلَ دَمُ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِوَلِيِّهِ وَيَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ الْآخَرِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْوَلِيِّ قَائِمَةٌ كَمَا كَانَتْ وَسَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّهِ إبَاحَةُ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ خَاصَّةً وَذَلِكَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْبَدَلِ كَمِلْكِ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْبَدَلُ إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ، وَإِذَا قَتَلَهُ فَقَالَ الْوَلِيُّ أَنَا كُنْت أَمَرْتُهُ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهُ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ سَقَطَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، فَهُوَ فِيمَا يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَبَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ الثَّانِي وَاجِبٌ لِوَرَثَتِهِ لَا قَوْلَ لِوَلِيِّ الْأَوَّلِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِمْ قِصَاصًا كَانَ، أَوْ مَالًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.